الأربعاء، 7 مارس 2018

أوّلاً نحن وذاكرتنا وأنتِ سيّدتي اسمعيني - زاهي وهبي 28 أيلول 1993




أوّلاً نحن وذاكرتنا وأنتِ سيّدتي اسمعيني
...
في تعقيبها على مقالتي الأسبوع الماضي، تلامس ميّ م. الريحاني أكثر من جرح، أكثر من علامة استفهام حيال ما يمضي إليه العيش الرّاهن. ولعلّها كانت مثلاً في قراءة متأنيّة هادئة، ومضادّة أحيانًا، بلا تكلّف أو انفعال.وحسنًا فعلت حين توسّعت في نقاط كنت أثرتها أو سلّطت ضوءًا عليها من غير الزّاوية التي طرحتها قبل أسبوعين. ولا أخفي أحدًا أنّني لم أزعم صوابًا أو يقينًا في ما ذهبت إليه،بل هي وجهة نظر(ي) في ما يجري وما زلت على إيماني بها، وليس هدف كل نقاش لي إقناع الآخر أوالإقتناع به، وإنّما الإستئناس به، لأنّ كلّ أحاديّة موحشة وقاتمة مهما ظنّت الصّواب، لهذا كنت مستأنسًا بما كتبته إليّ معقّبة أو معلّقة، موافقة أو معارضة، أو غامزة عليّ وعلى آخرين في الثّقافة وفي الصّحافة.
لست أزعم صوابًا، أقول، لا أمس ولا اليوم ولا غدًا، بل إنّني أخشى أحيانًا كثيرة إسقاطات ذاتيّة على واقع عام. ذلك إنّني إبن جيل غير هذا الجيل، وإن كنت أقاربه عمرًا، إبن زمن وثقافة مختلفين. ومرّات كثيرة أتساءل ألا أزال مقصّرًا إزاء إيقاع العيش الرّاهن ونبضه المتسارع شأن كثيرين من صحبي وأترابي في العمر والثّقافة. ومرّة قلت لشوقي إبي شقرا أنّ بي خوفًا من أن أغدو رجعيًّا بلا قصد إزاء السّائد والمستجدّ في الحياة اليوميّة، ثقافة واجتماعًا وسياسة. لأنّ الحياة هكذا دائمًا في سرعة وإلى أمام، ولكل زمن سماته وأهواؤه وليس في وسعنا إيقاف العجلة. لكن يظلّ يؤرقني إنّ تبدّل وقائع العيش شيء وانحدارها وإسفافها شيء آخر مختلف تمامًا. وليس في الإمكان قبول كلّ شيء بحجّة الزّمن والتّطوّر وإيقاع العصر، لأنّ ثمّة ما يشبه الإجماع، في العالم اليوم، على خواء الكوكب من سيادة التّكنولوجيا على كلّ ما عداها. والسّؤال اليوم أهي التّكنولوجيا في خدمة الثّقافة والإبداع أم العكس؟ التّكنولوجيا في سبيل الإنسان أم العكس؟ وفي التّعقيب أو الرّد راحت ميّ م. الرّيحاني كثيرًا في التّفاصيل، في الشّواهد والأمثلة التي كنت أسوقها في تدعيم وجهة نظري، وفاتها أنّ المقالة تحمل الرّقم ـ 2 ـ أي أنّها استكمال لمقالة سابقة من سلسلة هواجس تسكنني طارحًا إيّاها في البحث والنّقاش، وما تلك الأمثلة إلاّ غيض ممّا يغمرنا جميعًا بفعل الفجوات الهائلة التي أصابت عيشنا وذاكرتنا وجعلتنا في ما يشبه القطيعة المرضيّة مع كلّ ما هو مضيء في ما مضى، والغيبوبة عمّا يجري حولنا من رسم لمصائرنا وحيواتنا البائسة. وما كنت أسوق تلك الأمثلة من مواقع الإدانة المباشرة لأفراد، ولا سعيًا لاكتشاف من يتحمّل المسؤوليّة، إذ ليس النّاقد تحرّيًّا ثقافيًّا ولا هو شرلوك هولمز أو أرسين لوبين، وإنّما كنت أشير إلى واقع مدان، إلى بؤس هائل أصاب العيش والثّقافة، وإلى وهن عظيم حلّ في جسم المجتمع اللّبنانيّ السّائر إلى مزيد من التّفاهة والإبتذال، ولعلّ ما نراه ونسمعه مباشرة وعلى الهواء هو تجلّيات الحالة لا أسبابها.
مرّة أخرى، سيّدتي، أقول إنّني في غير هذا "الزّمن المكسيكي"، و"المكسيكيّة" عندي صارت صفة لكلّ ما أراه فارغًا من روح وجوهر. ولا تقنعني المبرّرات التي نحاولها لهذه "الحصبة" التي أصابت عشيّاتنا. لأنّ ما نظنّه رومانسيّة في تلك المسلسلات التي لا تنتهي ما هو إلاّ تبديد للوقت الثّمين ومضيعة للعقل في الإطالة المتعمّدة والمملّة لأحداث رتيبة، ينبغي لها فنّيًّا ألا تتجاوز الثّواني، لكنّها إعلانيًّا واستهلاكيًّا تطول حلقات كاملة. وتجد من ينظر إليها من بعض التّواقيع العائدة من غياب. أظنّ المسألة في مكان آخر، في الثّقافة عامّة، وفي المأزق الذي على الكوكب. أمّا التّفاصيل فهل تستحقّ كلّ هذا العناء.
زاهي وهبي
جريدة "النّهار" الثلثاء 28 أيلول 1993


ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.