السبت، 18 فبراير 2017

لغتنا المائيّة ( النصّ التاسع عشر من كتابي أحببتك فصرت الرسولة)



يعود كلّ الذين رحلوا حين ألتقي بك/ يأتون من أماكنهم الباردة/ يتركون زواياهم المعتمة ويجتمعون حولنا/ يعودون إلى الحياة لحظة تلتقي شفاهنا/ ويتعانق جسدانا/ وتمتزج رغباتنا/ فتتلوّن أرواحهم التي كانت باهتة بألف لون ولون/ ويشرق مجدهم من جديد.
يتوقّف العابرون عن العبور حين نلتقي/ يجمدون في أماكنهم ويرغبون في التشبّث بمكان أو أحد أو شيء/ ينظرون إلينا ونحن متعانقان/ ويفكّرون في أنّ العبور إن استمرّ عبورًا/ ضياع وشتات وامّحاء في أصقاع الأرض.
يأتيني صوتك من مكان بعيد/ ليقول لي أنّ ما كتبته حتّى الآن لم يكن لرجل متخيَّل/ وأنّ ما حلمت به في لياليّ القلقة كان رسائل منك/ وأنّ ما سأكتبه بعد اليوم سيكون أجمل بما لا يقاس ممّا كتبه الشعراء في تاريخ البشريّة.
وحين يلتقي صوتانا بعد لهفة وشوق تسكت الأصوات كلّها/ وتهدأ الحركة في الأرض/ ويصغي الكون إلينا/ ويتعلّم الجميع لغتنا التي اخترعناها.
هي ليست من حروف وكلمات/ لغتنا/ ولا من إشارات ورموز/ ولا من آهات وتنهّدات/ بل من مياه/ لغة مائيّة لم تخطر على بال أحد قبلنا/ ولم ينطق بها لسان قبل لسانينا/ ولم تدوَّن بها قبل قصّتنا أيّ قصّة حبّ.
يصغي الكون إلى لغتنا ولا يفهم منها شيئًا/ لكنّه يقع تحت سحرها/ ويرقص على إيقاعها/ ثمّ يغفو كطفل تعب من اللعب.
يعود الراحلون حين نلتقي/ يرجع الأزواج إلى منازلهم ليرتاحوا/ يحضن الآباء أولادهم ليستمدّوا قوّة الاستمرار/ ينام العاشق في حضن حبيبته/ وهو يحلم بغدٍ وعائلة وحياة لا موت فيها.
يعود الغائبون حين نلتقي/ يعودون من غيابهم إلى حضورنا/ يرجع الشبّان الذين ماتوا/ تضحك العجائز في منازل خالية إلّا من البرد/ تبرأ الجراح في الأجساد المتألّمة/ تستيقظ ذكريات كانت نائمة بين الكتب والأعمار/ وأخاديدِ السنين المحفورة على اليدين والوجه.
يعود التائهون حين نلتقي/ يعودون من عهود التيه إلى لحظة لقائنا/ تجمد اليد التي تمتدّ لتصفع/ يهدأ الغضب في النفوس القلقة/ يشعر الأسرى بنسمة حريّة/ ويتحوّل بكاء الأطفال ضحكًا تفهمه كلّ الشعوب.

يعود الذين رحلوا حين نلتقي/ ينظرون إلينا ونحن متعانقان/ ويطمئنّون إلى أنّ الحياة لا تزال تسري/ في عروق الأرض والأشجار والأنهار/ وحين يعودون إلى غيابهم الذي لا بدّ منه/ يحملون معهم زادًا من الحبّ/ يجعل أيّامهم حيث هي تفيض لبنًا وعسلًا/ وابتساماتٍ تجرح القلب لشدّة عذوبتها.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.