الأحد، 31 يناير 2010

الرجل الذي عبر


الرجل الذي ما زلت أحبّه مع أنّه عبر إلى الجهة الأخرى من الحبّ، ليس أقوى منّي كما قد يخيّل إلى البعض، ولست أضعف منه كما يتراءى للبعض الآخر.
هؤلاء الذين يظنون أنّ الاعتراف بالحب بمثل هذه الصراحة وهذه الشفافيّة عجز، مخطئون.
هؤلاء الذين يعتقدون أنّ حبّي محكوم بالفشل والخيبة لأنّ الآخر معجوق بنفسه حتى الانتشاء، مخطئون.
هؤلاء الذين يؤمنون بأنّني لن أحصد من انتظار الحبّ سوى الوحدة والحزن، مخطئون.
مخطئون لأنّني حين أحببت الرجل العابر كنت أعرف أنّه عابر.
ومخطئون لأنّ الآخر المعجوق بنفسه يحزنني لا على نفسي بل عليه.
ومخطئون لأنّني حين انتظرت كنت أستمتع بالانتظار المملوء حلمًا ودهشة وأملاً.
حين أحببت الرجل العابر تصالحت مع الله.
وحين هويت الرجل العابر تصالحت مع العالم.
وحين عشقت الرجل العابر تصالحت مع نفسي.
فماذا أريد بعد من الحبّ؟

الجمعة، 29 يناير 2010

جيل الخوف

هيروشيما


( من أرشيفي في صحيفة الرأي العام الكويتيّة - بعض الموضوعات يبقى ولو تغيّرت الأسماء والأماكن والتواريخ، الخوف أحد هذه الموضوعات)
*******
ما هو الموضوع الذي يستحقّ الكتابة في مثل هذه الليلة من الترقّب؟
عليّ أن أسلّم مقالتي يوم غد الجمعة أي بعد اليوم الذي سيرفع فيه القاضي ديتليف ميليس تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدّة. ويوم الاثنين ستصدر المقالة فهل ستكون قد سبقتها الأحداث وتخطّتها الظروف أم أن ما نشعر به نحن اللبنانيين الليلة سيرافقنا طويلاً؟
الجيش منتشر في كلّ مكان، والقوى الأمنيّة في حالة استنفار وتأهّب، والطرقات خالية تقريبًا من السيّارات، وبعض الأهل يفكّر في عدم إرسال أولاده إلى المدرسة غدًا. الجميع خائف. ممّ؟ لا أحد يستطيع تحديد أسباب الخوف أو موجباته. ومع ذلك فالخوف سيّد الموقف.
أنا أنتمي إلى جيل ألف الخوف منذ بداية تكوّن وعيه. خفنا من الموت والإعاقة والتشريد والذبح على الهويّة. خفنا على مستقبلنا وأيّامنا الآتية، خفنا على وطننا، خفنا من الهجرة، خفنا من الغربة. ولكن عندما أسمع الآن التلاميذ يترقبّون توتّر الأوضاع وتدهورها لكي يتوقّفوا عن الذهاب إلى المدرسة، وعندما أسمع أنّ دور النشر تنتظر نتائج تقرير ميليس كي تتابع طبع الكتب قبل معرض الكتاب المنتظر في تشرين الثاني، وعندما أسمع كيف هرعت النساء إلى المخازن لتأمين المؤونة، والرجال إلى محطّات البنزين لتخزين المحروقات، عندما أسمع كلّ ذلك، تعود بي الذاكرة إلى خوفنا القديم.
من لا يقيم في لبنان الآن لا يستطيع أن يفهم حالة الانفصام التي يعيشها مجتمعنا: شباب وصبايا لا يعنيهم إلاّ هدوء الأحوال ليتابعوا السهر في المرابع الليليّة، وشباب وصبايا في المقابل يريدون أن تنفجر الأوضاع وتبدأ الحرب لتصفية حسابات وللانتهاء من حالة الترقّب التي نمرّ فيها.
في ظلّ عودة شبح الخوف، وفي وقت ينتظر الجميع تقريرًا قد يقرّر مصير لبنان، ماذا نكتب؟ ومن يقرأ؟ وهل تغيّر الكتابة والقراءة شيئًا؟
سألت إحدى الصديقات التي عادت إلى لبنان خلال هذه الفترة: كيف تعودين الآن والناس يبحثون عن وسيلة لمغادرة البلد؟ قالت لي: إخوتي وأهلي هنا، فليحصل لي ما سيحصل لهم.
ناس آخرون متفائلون يقولون: لن يحدث شيء، وكلّ الإشاعات لا علاقة لها بالواقع.
في مثل هذه الأجواء، تبحث عن الأهل، عن الأصدقاء، تستعيد رغبتك في الصلاة، تريد أي دفء يبعد عنك برودة شهر تشرين الآتية باكرًا مصحوبة بالقلق والتوتّر. وأحيانًا كثيرة لا تجد أحدًا.
بعد الحرب اللبنانية، كتبنا الكثير عن غياب العلاقات الإنسانيّة حين حلّ السلم.
كتبنا عن التنافس والحسد اللذين أخذا مكان خوف الواحد منّا على الآخر من قذيفة أو رصاصة أو حاجز طيّار.
كتبنا عن السهرات في الملاجئ، وتقاسم الرغيف والشمعة وقنينة الماء.
كتبنا عن الإسراع لتفقّد الجرحى وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النار والسرقة والمصادرة.
اليوم تعود هذه الذكريات، لا لأنّنا نريد عودة الحرب، بل لأنّنا نفتقد العلاقات الإنسانيّة، ونخاف أن يعود الخوف، ونخشى ممّا نسمعه في أصوات بعض الشباب من رغبة في تجربة الحرب.
نحن جيل الخوف. نخاف من الأمل، ولا نطمئنّ إلى سماع الوعود، ولا ترتاح نفوسنا إلى تصريحات تعد بغد أفضل.
نحن لم نسافر ولم نأخذ جنسيّات أجنبيّة.
نحن لم نحارب ولم نسأل من كان على حقّ ومن كان على خطأ لأننا اعتبرنا الحرب نفسها خطأ.
نحن لم نستفد من أموال الدولة ولم نسرق ولم نقطع العلاقة مع من كان من غير ديننا.
نحن لم نقف على الحواجز ولم ننتم إلى أحزاب تمارس السرقة والتجارة أكثر مما تمارس عقائدها.
نحن لم نتعامل مع أجهزة المخابرات، ولم نسع إلى المراكز.
نحن خفنا على من نحبّ.
نحن خفنا على الوطن.
نحن خفنا على أنفسنا.
نحن خفنا على لقمة عيشنا.
نحن بقينا نذهب إلى عملنا ولو تحت القذائف لأنّنا اعتبرنا أنّ العمل هو خير ما نفعله في سبيل الوطن.
نحن دفعنا الثمن من كرامتنا على الحواجز إلى أيّ طرف انتمت لأننا لم نكن محسوبين على أحد من الأقوياء والمتنفّذين.
ولذلك نحن نعرف أكثر من سوانا ماذا يعني أن يسود الخوف في الشارع اللبنانيّ. وأن يعود القلق وأن يكون المصير غامضًا. وأن نتتظر.
الحاجة إلى الحبّ الآن أكثر إلحاحًا من الكتابة عنه، والبحث عن صديق أكثر دفئًا من إطلاق النظريات حول موضوع الصداقة. والكتابة عن الخوف قد تطرد الخوف.
الخميس مساء، والقاضي ميليس سلّم تقريره. والاتصالات الهاتفيّة لا تنقطع بين الناس المتسائلين المترقبّين.
الاثنين صباحًا. هل سأسخر من مخاوفي وذكرياتي. أرجو ذلك.




الخميس، 28 يناير 2010

الوقت - شارل أزنافور


دعيني في هذي الحياة أقود خطاكِ
دعيني لعلّي أنال رضاكِ
تعالَي كطفلة إلى حضن قلبي
واتركيني أمحو بهُدبي:
الوقت الذي على عجلٍ يمضي
الوقت الذي للنوم يطيبْ
الوقت الذي إلى الحلم يُفضي
أو ذاك الغريبُ العجيبْ
الوقت الذي قد يدوم يومًا
أو في غفلة يرحل، لا يتأخّرْ
الوقت الذي قد يجري دومًا
أو ذاك الذي منّا يتذمّرْ.
الوقت الوقت
لا شيء إلاّه
وقتُكِ ووقتي
والوقت الذي لنا
والوقت الذي رحل
والوقت الذي وصل
ووقت العُطل
ووقت القُبل
وقت الامّحاء
ووقتٌ للبكاء



وقت للحظّ السعيد
ووقت للموت العنيد.
وقت المجد الغابر
ووقت السِلم الآمن
وقت اللعب الغامر
ووقت العمل الضامن
وقت الجِد أو وقت الفرح
وقت الكذب أو وقت التَرح
وقت البرد أو وقت الأوهام
وقت الذروة أو وقت الأحلام
وقت للحياة، الوقت الآتي
لا يتوقّف، أبدًا لا ينام
وأنا أعرف أنّها الحياة.
ومنها سنصنع وقتًا لنا.

الثلاثاء، 26 يناير 2010

المؤسّسة الطبيّة الوطنيّة لمكافحة الألم


كتاب مفتوح إلى الرئيس ميشال سليمان:المؤسسة الطبّية الوطنيّة لمكافحة الألم


أتوجه اليك داعيا اياك الى انشاء مؤسسة وطنية جامعة شاملة تعنى بأهم شأن يمكن المواطن اللبناني، أيًّا كان انتماؤه وتوجّهه، أن يحلم به وهو أن يجد من يخفّف عنه الألم بتجلّياته الجسديّة والنفسيّة.

منذ أربعين سنة وأنا أراقب آلام الناس وأعالج أمراضهم في البلاد التي كنت ولا أزال أعمل فيها وأحاضر في الجامعات وأكتب في المجلّات العلميّة، وفي وجداني أوجاع اللبنانيّين وهمومهم الصحيّة، وفي رأسي سؤال واحد: كيف نساعد في تخفيف آلامهم الجسديّة والنفسيّة.

الجواب: المؤسّسة الطبيّة الوطنيّة لمكافحة الألم.

واللبنانيّون الذين لا يزالون يرزحون تحت آثار الحرب وذيولها النفسيّةّ والاقتصاديّة والاجتماعيّة يحتاجون اليوم الى مؤسّسة ترعى شؤونهم في ما يتعلّق بالآلام المزمنة والدائمة، وفيهم المعوّقون جسديًّا ونفسيًّا بسبب الحرب وسواها وذوو الحاجات الخاصة، والذين كانوا مخطوفين أو أسرى أو معتقلين، وذوو الشهداء من الشمال الى الجنوب، والذين تدهورت أحوالهم الماديّة فوقعوا ضحايا شتّى الأمراض والآلام، وهناك المبعدون عن أرضهم، وهناك المصابون بالانهيارات العصبيّة ومدمنو المخدّرات والكحول، وفيهم المهجرّون والناجون من الانفجارات ومحاولات الاغتيال، وغيرهم أنواع من حملة الآلام المبرّحة وأصحاب الأمراض المتعلّقة بالجهاز العصبيّ والأورام السرطانيّة القابلة للعلاج وتلك التي يستحيل إيجاد العلاج لها حتى الآن، وكلّ واحد من هؤلاء المتألّمين يحتاج الى عناية فريق طبيّ كامل يعمل ويراقب ويدرس ويحلّل ويستنتج ويعالج وكلّ ذلك في مرحلة زمنيّة طويلة، فضلاً عن العناية بالمحيطين بهم من اّقرباء وأصدقاء.ولا يخفى على أحد أنّ في لبنان المقيم إمكانات طبيّة هائلة تنتظر إشارة ملتزمة نزيهة صادقة متعالية فوق الطوائف والمحسوبيّات تدعوها الى الانضمام الى مؤسسة لا تبغي سوى تخفيف آلام الناس ومعالجة أمراضهم المزمنة وإرشاد الاجيال الشابة الى طرق الوقاية. وحين ألتقي حملة هذه الامكانات في المؤتمرات العالميّة يكون محور حديثنا سؤال ما فتئ يتردد بيننا منذ أعوام وأعوام: كيف نستطيع أن نخفّف آلام أبناء شعبنا؟ وما زلنا حتى اليوم عاجزين عن إيجاد الهيكليّة التنظيميّة التي يمكنها أن تستوعب أجوبتنا الحاضرة الجاهزة التي تنتظر إشارة بدء العمل، وأسمح لنفسي هنا بذكر أحدهم وهو الدكتور زهير نجا من مستشفى المقاصد.ل

لا يغيب عن بالك، يا فخامة الرئيس، أنّ الإنجازات العظيمة هي التي تخلّد أسماء رجالات الدولة، وهذا ما اكتشفه جلجامش في تاريخنا القديم حين تعلّم في نهاية سعيه أنّ الإنسان لا يقاوم الموت إلاّ بالعمران والبناء وخدمة الانسانيّة، فارتبط اسم بشارة الخوري بالاستقلال، وكميل شمعون بمهرجانات بعلبك والمدينة الرياضيّة، وفؤاد شهاب بالمؤسّسات الطبيّة وتنظيم العمل الإداريّ، وشارل الحلو بالثقافة الفرنكوفونيةّ، ولو بقي بيت المستقبل الصرح الفكريّ والثقافيّ قائمًا لكان أمين الجميل انضم الى قائمة الرؤساء ذوي الإنجازات التي أفادت المجتمع اللبناني بكلّ فئاته.

إنّني، يا فخامة الرئيس، باسمي الشخصي وباسم عدد كبير من الأطبّاء أتوجّه اليك مناشدًا أن يكون عهدك عهد تخفيف الآلام بالمعنى الحقيقيّ للعبارة لا بمعناها المجازيّ، وأن تثق بأنّنا لا نبحث إلاّ عن خدمة أبناء وطننا بعيدًا من التجاذبات السياسيّة والصراعات الحزبيّة والطائفيّة، ولا نطمح سوى الى المساعدة في مداواة الجروح بعدما طاب لكثيرين أن ينكأوها.

ونحن نؤمن بأنّ المؤسسة الوطنيّة لمكافحة الألم حاجة ماسة توازي في أهمّيتها مؤسّسات مكافحة الشغب والحرائق والإدمان والفساد وتعادل في دورها الإنسانيّ المؤسّسات التي تكافح الكثير من الأمراض كالسرطان والسكريّ وغيرها.

كلّنا أمل، يا فخامة الرئيس، في جوابكم الإيجابيّ.

الدكتور ناجي ميماسي


رسالة مهمّة نشرت في صحيفة "النهار" الثلاثاء 26 كانون الثاني 2010، علينا أن نعمل على نشرها لعلّ فكرتها تتحقّق.

السبت، 23 يناير 2010

عزّ بعد فاقة


إليكم هذه الأخبار:
الخبر الأوّل:
قام أحدهم، وهو مدرّس عتيق ويفترض أن يكون على مستوى معيّن من العلم والثقافة، بتغيير أثاث منزله بعدما تحسّنت ظروفه الماليّة. ولكي نهنئه على هذا التجديد ومن ضمن الزيارات العائليّة الواجبة، وخصوصًا أنّه كان قد أجرى عمليّة جراحيّة، اشترينا هدية ملائمة وذهبنا لزيارته.
لم يكن شراء الهديّة بالسهولة التي تبدو حين نذكر ذلك. فلقد أمضيت وشقيقتي ساعات النهار بالبحث عن إناء أخضر اللون يناسب لون الأثاث الجديد في غرفة الجلوس. وبعد بحث طويل، وجدنا ضالتنا في قطعة أثريّة من الزجاج المنفوخ محاطة بالحديد المشغول بطريقة فنيّة راقية تنمّ عن الذوق. ولشدّة إعجابنا بهذه القطعة النادرة لم نتردّد في دفع ثمنها الباهظ على اعتبار أنّ الرجل سيعرف قيمتها ويعجب بها.
غير أنّ حسابات الحقل لم تتناسب مع حسابات البيدر. فعندما فتح قريبنا الغلاف عن الهدية ردّد كلمات شكر تقليديّة لا تعبّر عن دهشة وتقدير، ثم وضع الهديّة جانبًا ودعانا وهو في حالة من الإعجاب والدهشة لرؤية هدية أخرى وصلته للمناسبة نفسها من صديق شديد الكرم كما وصفه. وقمنا جميعنا إلى صالة الاستقبال الرسميّة لرؤية الهدية التي وصفها الرجل بالكبيرة والضخمة، وقدّر ثمنها بمبلغ اكتشفنا أنّه أقلّ ممّا دفعناه، فإذا بها نبتة وضعت في زاوية المكان.

الخبر الثاني:
زارنا طبيب صديق وصل منذ فترة إلى مستوى من الثراء هنأناه عليه. وحين كان يشرب العصير الذي قدّمناه إليه، أوقع بعض القطرات على السجادة المفروشة في غرفة الاستقبال. فأخذ محرمة ورقيّة وانحنى ليجفّف ما أوقعه. فقالت له شقيقتي محاولة أن تخفّف عنه ما قد يكون فيه إحراج له: لا بأس، لا بأس. فأجابها قائلاً: معك حقّ، فثمن المحرمة الورقيّة أعلى من ثمن السجّادة.
تبادلنا النظرات كأنّنا نتفق على السكوت وعدم الردّ احترامًا لصديق يزورنا حين تدعو الحاجة ونستشيره في شؤوننا الصحيّة وغالبًا من دون مقابل. فبلعنا الإهانة واعتبرنا أنّه كان يمازحنا.
ثم انتقلنا إلى موضوع آخر محاولين عدم الحديث عن الصحّة والمرض معتبرين أنّ الرجل متعب من الحديث عن هذا الموضوع. فأخبره أخي عن كتاب ضخم يساهم في إعداده عن انتفاضة استقلال 2005. كنت خلال ذلك أراقب الطبيب المفترض أنّه صديق فلاحظت على وجهه علامات الضجر والتأفّف والرغبة في تغيير الحديث الذي لم يعنه لا من قريب ولا من بعيد.
حاولت أن أخبر الطبيب عن كتاب سيصدر لي قريبًا، فسأل بسخرية: أهو شعر أيضًا؟
فتدخّلت شقيقتي وقالت له: أنا أشارك في وضع كتاب عن الانتخابات النيابيّة في لبنان.
غير أن المحاولة الثالثة باءت كذلك بالفشل، ولم تثر الأخبار الثلاثة أي اهتمام فلم يطرح الطبيب سؤالاً واحدًا ولم يهنّئ على هذه الإنجازات الفكريّة، بل تابع حديثه عن ثقل دم المرضى ومشاكل المستشفيات.

الخبر الثالث:
لم يبرع في الدراسة، فعمل في كاراج لتصليح السيّارات. كان وضع أهله الاقتصاديّ دون المستوى المطلوب وكان عدد أفراد الأسرة كبيرًا ما جعل الوالدة تقبل بالهبات التي تعطى لها من الأهل والجيران معترفة بعجزها عن شراء كلّ ما يحتاج إليه الأولاد.
ولذلك كان هذا المراهق ينتعل في عمله أحذية عتيقة لأولاد عمّه وأولاد الجيران كي يوفّر حذاءه الجديد ليوم العطلة، ويرتدي ملابس تخلّى له عنها أصحابها لكي تبقى ثيابه الخاصّة الوحيدة نظيفة وجديدة.
عندما كبر وهاجر، صار كلّ همّه أن يشتري أحذية من ماركات عالمية وملابس بأسعار باهظة. ولو صفّت الأحذية التي اشتراها إلى جانب بعضها البعض لوصلت من بلاد المهجر إلى أمام باب البيت الذي تركه غير آسف. ولو جمع المال الذي أنفقه على شرائها في تجارة رابحة لأصبح من أثرياء العالم، ولو جمع الملابس الثمينة التي أصرّ على ارتدائها حتّى إلى الكاراج – فهو بقي يعمل في المجال نفسه – لمنعت البرد عن فقراء كثيرين.
غير أنّ الشاب كان يعالج ذكريات طفولته بالطريقة الوحيدة التي يعرفها: أن يشتري أحذية تنسيه أحذية أقربائه، وأن يشتري ملابس تنسي جسمه ملمس ملابس الآخرين ورائحتها.

الخبر الرابع:
أقامت العائلة المؤلّفة من ثمانية أفراد في بيت مؤلّف من غرفة واحدة ومطبخ وغرفة حمّام. غير أنّ الأولاد كانوا بارعين في الدراسة، فنجحوا فيها وتفوّقوا وحقّقوا أحلامهم في العمل والزواج والإنجاب والسفر.
وكان من الطبيعيّ أن يتفرّق شملهم وأن يتركوا الغرفة إلى بيوت اشتروها كبيرة وواسعة وفخمة.
من الغرفة الصغيرة إلى بيوت فيها غرف كثيرة لشتّى أنواع الاستعمالات.
من الغرفة الواحدة التي استعملت للنوم والاستقبال والدرس، إلى غرف عديدة لا يعرفون ماذا يفعلون بها.
ولكنّهم حين كانوا يلتقون بأحد جيرانهم القدامى كانوا يقولون: سقى الله تلك الأيّام!
ومع ذلك بقي الناس يتخذونهم مثلاً يعطونه في احتمال الصعوبات والصبر على الفقر والاجتهاد في العمل والدرس والطموح والإرادة.

الأربعاء، 20 يناير 2010

عن النساء والحريّة والأمراض العصبيّة



السيّدة التي تساعدنا في أعمال المنزل سريلانكيّة. نعم، فنحن من طبقة لا تستطيع أن تطلب مساعدة الفليبنيّات ولا حتّى الحبشيّات، لذلك كان علينا أن نرضى بالمستطاع (جنسيّات الخدم في بلادنا مرتبطة بالمستويات الاجتماعيّة!!). المهمّ أنّ السيّدة السريلانكيّة تجيد مختلف أنواع الأعمال ما عدا استخدام الكمبيوتر والإنترنت! لذلك رحت أفكّر في تعليمها ذلك لعلّها تساعدني في طباعة مقالاتي التي أكتبها لها على المسوّدات وكذلك في البحث عن المعلومات، وهكذا أستطيع أسوة بباقي ربّات البيوت ذوات الخدم والحشم أن استنفد طاقة تلك المرأة حتى آخر نفس. إذ يعجبني ذكاء بعض السيّدات من اللواتي يربّين الكلاب في منازلهنّ (أحسن من تربية الأولاد!) حين يستفدن حتى "الرمق الأخير" من قدرات خادماتهنّ فيستغللن أوقات راحتهنّ ليطلبن منهن أخذ الكلب في نزهته اليوميّة. وكم يبدو منظر الخادمة ذا مستوى راق وأنيق وهي تتنزّه مع الكلب على الطرقات حتّى ليخيّل إلى الناظر إليها أن لا هموم لديها إلاّ الاهتمام بالحيوانات الأليفة، وأنّها لم تترك بلادها وعائلتها وأطفالها إلاّ لتلاعب الكلب الظريف إلى جانب الطريق الآمن والنظيف.
ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، لا بأس إن أشرت إلى حادثة جرت أمام شقيقتي وتدخّلت فيها بشكل لاشعوريّ وتدلّ كيف نربّي أبناءنا على "احترام" من يساعدنا ويسهر على خدمتنا. ففي مناسبة عيادتها أحد المرضى في المستشفى، سمعت شقيقتي وهي تمرّ في المدخل الرحب، صبيًّا لا يتجاوز الثامنة من العمر يقف بالقرب من أمّه وينادي بصوت مرتفع ينقصه التهذيب واللياقة أحد العاملين في المستشفى وهو من جنسيّة أفريقيّة ويأمره بصوت فيه قحة وسخرية وادّعاء غضب بتنظيف الأرض جيّدًا. وكانت أمّه تبتسم له فخورة بنباهته وذكائه. فما كان من شقيقتي، وهي عادة لا تتدخّل في ما لا يعنيها، إلا أن توجّهت إلى الصبيّ وعلى مسمع من بعض الحاضرين طالبة منه بحزم أن يحترم الآخرين وألاّ يكون قليل التهذيب.
وفي مناسبة الكلام عن الأعمال المنزليّة، لا بأس من الإشارة إلى حديث تلفزيونيّ لأحد رجال الدين المسيحيين، قال فيه إنّه سمع في أحد الإعلانات خبرًا عن آلة منزليّة تخفّف الأعباء عن المرأة العصريّة "وتحرّرها" (يجب أن تتوجّه الإعلانات إلى الخادمات لأنّهنّ هنّ اللواتي يستعملن الآلات المنزلية ومساحيق التنظيف وحفاضات الأطفال وما إلى ذلك). واستوقفت رجل الدين كلمة "تحرّرها" وتساءل: هل كانت جدّاتنا وأمهاتنا أسيرات عبدات مقيّدات حين كنّ ينصرفن بحبّ وعاطفة إلى معالجة شؤون المنزل من غسل وكيّ وطبخ؟ وهل تحرّر المرأة يعني أن تعمل الآلات والخادمات ما كان عليهنّ القيام به كربّات منازل لينصرفن إلى النوادي الرياضيّة ولعب الورق والصبحيّات النسائيّة والثرثرة؟
في الواقع لا أعرف عدد النساء العربيّات اللواتي يستغللن الوقت الذي وفّرته الآلات والخادمات لقراءة كتاب مهمّ أو لممارسة هواية تحفّز الذكاء والخلق والإبداع أو لمشاهدة فيلم ذي مغزى وموضوع أو للبحث عبر الإنترنت عن المفيد والمثقّف. ولكن ما أشهد عليه في مجتمعي وما أعرفه عن المجتمعات الأخرى المجاورة لا يبشّران بالخير.

وفي المناسبة لا أفهم لماذا تتكلّم النساء عن الأعمال المنزليّة باشمئزاز كأنّ في الأمر إهانة أو مذلّة. فهل من المهين أن تغسل الواحدة منّا ملابس من تحبّ أو تكوي قمصانه أو تحضّر له الطعام؟ وهل مذلّ أن تمارس الأعمال المنزليّة كرياضة شيّقة تحرّك الجسم وتضفي على المنزل لمسة خاصّة من صاحبته؟ طبعًا أنا لا أدعو المرأة لكي تكون خادمة عند أبيها أو أخيها أو زوجها أو ابنها، لا بل على الجميع النظر إلى الأعمال المنزليّة من تنظيف وعناية وترتيب وتنسيق كنشاط عائليّ يسمح للأفراد على اختلاف أعمارهم باستنباط الأفكار التجميليّة التزينيّة والشعور بالانتماء إلى مكان اسمه "البيت" وهو ليس فندقًا نعود إليه ليلاً لننام أو مطعمًا نقصده لنأكل. ولا أدعو كذلك لكي تكون الأعمال المنزليّة عبئًا يعيق المرأة عن ممارسة عملها خارج المنزل أو يمنعها عن النشاطات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة وسواها، بل ادعوها إلى استغلال وجود الآلات والمساعِدات للاستفادة من الوقت في ما يضيف إلى شخصيّتها ويفيد مجتمعها دون أن تنسى أنّها "سيّدة البيت".
إنّ أجمل قصائد الغزل قد تتكوّن ونحن نهتمّ بأغراض من نحبّ، وأطرف الأفكار قد تخطر على بالنا ونحن منصرفات إلى ترتيب البيت وتنسيق الأثاث فيه ، وأكثر المواضيع أهميّة قد تفاجئ فكرنا ونحن منهمكات في تحضير الطعام أو إعداد المائدة أو ريّ المزروعات ما دامت كلّ هذه الأعمال لا تتطلّب جهدًا فكريًّا خاصًا. ولا ننسى أنّ الطبّ بشقّيه الحديث والتقليديّ يدعو إلى الحركة "التي فيها بركة" كما نقول في كلامنا العاميّ. ولا نتحدّث هنا طبعًا عن تربية الأولاد لأنّها شأن مقدّس له طقوسه ودروسه ومتعته ونظامه وليس من الأعمال التي نكلها إلى الخادمات والمساعدات.

للكاتب اللبنانيّ الكبير مارون عبّود قصّة جميلة ذات جزءين عن سيّدة اسمها أم نخّول ورد ذكرها في كتابه الرائع "وجوه وحكايات". وفي القصّة أن أم نخّول امرأة نشيطة تعمل في الأرض وتعيش مع عائلتها من خيراتها. ويخبرنا الكاتب نقلاً عن أم نخّول عن أنواع الأعمال التي تقوم بها مع زوجها وأبنائها وهي أعمال لا تعدّ ولا تحصى، تبدأ منذ ساعات الصباح الأولى ولا تنتهي مع حلول الظلام، ولا يوقفها مطر أو تبطئها شمس وهي أعمال تتنوّع بين الزراعة والحصاد والقطاف والعناية بالحيوانات وتحضير المؤونة والثياب والأثاث وما إلى ذلك. ومع ذلك فأمّ نخّول لم تصب بانهيار عصبيّ بسبب الإرهاق ولم تتناول المهدّئات ولم تكن بدينة تحتاج إلى رياضة وشفط دهون، ولم تعان من الفراغ العاطفيّ ولا من الملل والرتابة، ولم يكن عندها خادمة تأخذ الحيوانات في نزهات يوميّة. لقد كانت امرأة سويّة تمارس الحبّ وتنجب الأولاد وتعمل في الأرض والبيت بلا تردّد أو تذمّر. ومع ذلك فلم تكن خاضعة أو خانعة أو أسيرة أو مظلومة بل يؤكّد مارون عبّود أنّ الناس كانوا يضربون المثل بها وفي ذلك يقول: "سمعت باسم أمّ نخّول وأنا ابن خمس، فكنت أكبر ويكبر معي. إذا دبّرت امرأة تدبيرًا فيه صلاح لعيلتها نوّهوا باسمها قائلين: عاشت أم نخّول. وإنّ عزّ شيء في الضيعة ووجدوه عند واحدة قالوا: هذي أم نخّول ثانية. وإن مرّت على الطريق امرأة مترجّلة لا تبالي بمن يتشمّسون قدّام الأبواب، تنحنحوا وتغامزوا قائلين: إحم...أمّ نخّول. وهكذا انطبع الاسم في ذهني كالأبانا والسلام. فالمرحوم، على قلّة تقديره للمرأة، كان يلقّبها أخت الرجال فيُحفظ أمي ولا يبالي، بل يصبّ النفط على النار فيقول: آه على امرأة مثلها".
ليس المطلوب أن يغضب هذا النوع من الكتابات بعض النساء ويرضي بعض الرجال، مع العلم أن لا أحد يسعى إلى كلا الأمرين، بل المطلوب إعادة النظر في مفهوم الحريّة التي ندّعي أنّنا نطالب بها أو ندعو إليها. فالحريّة تبدو اليوم عند كثير من الشابات والنساء (والرجال متواطئون في هذا الشأن) انفلاتًا أخلاقيًّا وعريًا جسديًّا وفراغًا روحيًّا وجمودًا فكريًّا. والمؤسف فعلاً أنّ الردّ على كلّ ذلك يجنح نحو التزمّت والتقوقع والانعزال والالتزام الأصوليّ المتشدّد كأن لا خيار آخر!

الثلاثاء، 19 يناير 2010

ثلاثيّة اللقاء


باستحمام طويل، وحفّ عنيف، وتليين لطيف، وتطرية منعشة، وتمسيد صحيّ، وتدريم أنيق، وتقليم فنّي، وتلوين حديث، وتسريح خفيف، وتصفيف لافت، وتزيين لائق، وتجميل رصين، وتخطيط حاجبين مرسومين، ونتف وبرات وقحات، ونزع شعيرات زائدة، وتشقير أخرى أساسيّة، وتبييض أسنان بيضاء، ودهن كريمات مثيرة، وكيّ ثياب جديدة، وتنسيق ألوان زاهية، واختيار إكسسوارات مناسبة، وتحضير حذاء مريح، وإعداد حقيبة عمليّة، أمضت المرأة العاشقة يوم ما قبل اللقاء.

يوم اللقاء دعاها الرجل لتناول الغداء في مطعم يقدّم الوجبات السريعة لأنّه كان على عجلة من أمره.

أمّا يوم ما بعد اللقاء، فأمضته المرأة المسكينة بالكتابة عمّا كانت تحلم بأن يصير في يوم اللقاء.

الأحد، 17 يناير 2010

رجل الحكايات


لماذا يثير هذا الرجل فيّ الرغبة في الكتابة وسرد الحكايات؟ من أين له هذه القدرة على تحريك مخيّلتي وتحفيز كلماتي وتلوين الأحرف؟
لقد كان اللقاء به مصدرًا غنيًّا للكلام ونبعًا متدفّقًا من الأخبار، ولم أكن أعرف إن كان ذلك بسبب ندرة اللقاءات – على كثرتها يقول هو – أو بسبب الخوف من انقطاعها فجأة.
رجل الحكايات هذا كان هو أيضًا يحسن السرد ويهوى الشعر والأغنيات. وكنت أحبّ أن أعتقد أنّه يجمعها لي. يلملمها من السهرات واللقاءات واجتماعات العمل ويرويها لي بأسلوب عفويّ فيه من الطرافة مثل ما فيه من التشويق، وفيه من الغموض مثل ما فيه من الوضوح. ولم أكن أنسى. لم أكن أنسى ما يرويه عنه أو عن الآخرين محترمًا في الوقت نفسه سريّة ما يروى له، مكتفيًا حيث يجب بالفكرة من دون التفاصيل، أو بالموضوع من دون الأسماء. ومع ذلك كنت أفهم ما يريد قوله وإن كان فضولي يؤلمني أحيانًا لأنّني أرغب في أكثر ممّا يقول، كأنّني سأعرف المزيد عنه إذا عرفت المزيد عن الذين يحيطون به.
لماذا أكتب عن هذا الرجل؟ لماذا أحوّله حكاية فيها من الجمال الكثير وفيها من الشعر الكثير وفيها من القلق الكثير الكثير؟ لماذا حوّلته بطلاً في زمن تذوي فيه البطولات، وقدّيسًا في وقت يشكّ فيه الناس بالقدّيسين المرفوعين فوق المذابح؟ أهو الغموض الذي جعله رقمًا صعبًا؟ أم هي زئبقيّته التي جعلته حلمًا مستحيل التحقيق؟ أم هو صدقه الذي أحاطه بهالة من الفرادة في حين يبدو الناس ضبابيين رماديين؟
الصدق؟ لا بل هي الأصالة.
الأصالة في أن يكون ما هو عليه، من دون أن يدّعي شيئًا ومن دون أن يلبس لباسًا غير لباسه أو يضع قناعًا غير وجهه.
ألعلّني لذلك أخاف عليه؟ من نفسه، من الحزن، من الحياة، من الناس، من المرض، من الموت، من الحبّ، من النسيان، من الألم، من التعب، من الجوع، من العطش، من البرد، من الحرّ، من الأرق، من القلق، من كلّ ما يمكن أن يعترض حياة الإنسان ويوتّرها ولو لحين؟ وأخاف من عجزي عن فعل أيّ شيء لمنع أيّ شيء من ذلك.
علاقتي به كانت تدفعني للتساؤل: كيف يحتمل الأهلون حبّهم لأولادهم؟ كيف يحتملون خوفهم عليهم؟ وكيف يحتمل العشّاق اشتياقهم والأحياء رحيل أحبائهم والأصحّاء أنين مرضاهم؟ كيف يحتمل الشعراء فقدان صورة خطرت في بالهم لحظة وضاعت؟ كيف يحتمل الفلاسفة أفكارهم حول الحياة والمصير؟ وكيف يحتمل القدّيسون النظر إلى خطايا الناس ورغباتهم المكبوتة؟
حكايات وحزن وتساؤل؟ كيف تتسع علاقة لا اسم لها لكلّ هذا؟ وهل يكفي عمر واحد لكي تعاش دون أن ينوء أحد من طرفيها تحت ثقل مشاعرها؟ أو على الأقلّ هل سيبقى الواحد منّا كما كان قبلها؟

الميليشيات الثقافيّة



فضلاً عن العائلات الروحيّة (كي لا نقول الفئات الطائفيّة والمذهبيّة)، والأحزاب السياسيّة والتجمّعات النقابيّة والمدارس الفكريّة والاتجاهات الأدبيّة، عندنا في لبنان ميلشيات ثقافيّة بزعماء ومتاريس وخطط عسكريّة. ونحن أبناء الحرب خبرنا جيّدًا طريقة عمل المليشيات غير النظاميّ وميولها الإجراميّة التخريبيّة التقسيميّة التهجيريّة، ولمسنا لمس اليد المصير الذي أوصلتنا إليه.
ولأنّ من طبيعة العمل الميليشيوي الرغبة في السيطرة والانتصار بأيّ ثمن، كان من المتوقّع ألا يقبل المنضوون تحت لواء هذه الميليشيا أو تلك الحوار مع الآخر أو الاعتراف بحقّه في الوجود. لا بل يعملون على تجاهله ثمّ إلغائه لتخلو لهم "الساحة الثقافيّة" فيصولون فيها ويجولون من دون أن يزعجهم أحد

ومن الطبيعيّ كذلك ألا تقبل هذه الميليشيات في عداد عناصرها إلاّ من "يطبّل" لزعمائها ويكيل المديح لأفكارهم وأساليبهم، فيكتب هؤلاء الأتباع بأقلام أسيادهم ولا يجرأون على الخروج عن الخط المرسوم لهم. ولذلك تتكرّر الأفكار في عمليّة اجترار سمجة ومملّة تستعاد فيها الكلمات والشعارات بتوقيع واحد وإن اختلفت الأسماء.

والويل، كلّ الويل، لطائر يغرّد خارج سرب هذا أو ذاك من أصحاب النفوذ الثقافيّ، إذ ستحاصره منذ اللحظة الأولى الكواسر لتطرده من سماء الإبداع التي رغب في أن يمرّن جناحيه على الطيران فيها وصولاً إلى الانطلاق والتحليق.

إن مجرّد استخدامنا مصطلح "الساحة الثقافيّة" يعني أنّنا نتحدّث عن ساحة القتال، حيث يتواجه المثقفون مسلّحين بالحقد أوّلاً، وبخطط الكرّ والفرّ والالتفاف التي تنتجها مخيلاتهم الخصبة. وبما أنّ كلّ شيء مشروع في الحبّ والحرب، لا يتردّد كثر من الذين يعتبرون أنفسهم "زبدة" المثقّفين في تسلّق أكتاف المختلفين عنهم ومعهم ليصلوا إلى قمم الشهرة والانتشار، وليحتلّوا المنابر على اختلاف أنواعها، فيقفزون من التلفزيون إلى الصحيفة ومن الصحيفة إلى الإذاعة ومن الإذاعة إلى المجلّة، ومن الفسحة اللبنانيّة إلى الانتشار العربيّ عبر الخدمات المتبادلة فالغربيّ عبر الترجمات المنعم بها على المختارين، وأحيانًا كثيرة يحتلّونها جميعها لا بسبب البراعة والإبداع والتفوّق بل بسبب علاقات تبدأ بالصحافة وتمرّ في الأدب وتنتهي في السياسة وما يتفرّع منها . المهمّ ألا يسمع الناس سوى أصواتهم (أو أصوات جوقة المردّدين خلفهم)، وألّا يقرأوا إلا كلماتهم (أو الكلمات التي تمدحهم وتشيد بأعمالهم) وألّا يروا إلّا وجوههم (أو الوجوه التي تشبههم

والطريف في الأمر أن أقلام هؤلاء "الزعماء" لا تتوقّف عن مهاجمة العولمة ذات الخط الأحاديّ والتنديد بإلغاء خصوصيّات القوميّات والأفراد والدعوة إلى التنوّع والانفتاح والديمقراطيّة والعمل على تحرير الشعوب وتغيير الأنظمة. غير أنّ بين أقوالهم وأفعالهم بونًا شاسعًا.

وعن هذه الطبقة من المثقّفين يقول المفكّر علي حرب في كتابه الذي أثار عند صدوره ردود فعل تراوحت بين التنديد والتأييد "أوهام النخبة أو نقد المثقّف": " لا يشكّل المثقّفون مجتمعًا تحكمه مبادئ العقلانيّة وقواعد الفضيلة. فهم شأنهم شأن أصحاب المهن الأخرى، لهم حسناتهم ومساوئهم. وقطاعهم المجتمعيّ أو حقلهم الإنتاجيّ، شأنه شأن بقيّة الحقول والقطاعات، هو مجال للتنافس والنزاعات، وبؤرة للضغوطات والتوتّرات. إنّه "حقل صراع" بين العاملين والمنتجين، على امتلاك السلع الرمزيّة واستخدامها في تحقيق المكاسب وتوسيع النفوذ. ومعنى ذلك أنّ العلاقات داخل الحقل الثقافيّ هي علاقات قوّة، أي علاقات بين قوى وتجمّعات لا تخلو من بربريّة الغاب وفاشيّة العصبيّات وعقليّة المافيات الحديثة، فضلاً عن النرجسيّة التي يتمتّع بها المثقّفون، لاعتقادهم بأفضليّة العمل الفكريّ على العمل اليدويّ".

ونضيف إلى ذلك أنّ المثقّفين لا يؤمنون بأفضليّة عملهم على العمل اليدوي فحسب بل إنّهم داخل تجمّعاتهم نفسها ينقسمون طبقات ومجموعات فيها الأقوياء والمسيطرون وأصحاب الحظوة الذين يجيدون لعبة العلاقات العامّة ويبرعون في العلاقات الخاصّة مع أولي الشأن وأصحاب الثروات والسلطة، وفيها في المقابل الأتباع الببغائيّون الذين يمشون في فيء الفئة الأولى ويقتاتون من الفتات المتساقط عن موائدها.

ولا شكّ أنّ زعماء هذه الميليشيات يقرأون ما يكتبه سواهم ويقلّدونه أو يستوحون أفكاره ويسرقون عن الإنترنت ويترجمون عن لغات العالم كلّها، ولكنّهم ليسوا مضطرين إلى الإعلان عن ذلك أو الاعتراف به أو الخوف من معرفته، لأنّهم، وبسبب غرورهم، مقتنعون بأنّ من يقرأ كتاباتهم لا يقرأ ما يكتبه سواهم، وبالتالي لن يعرف المعجبون بهم حقيقة إبداعهم ومصادره.

الوضع في "الساحة الثقافيّة" في لبنان إذًا كالوضع في الساحات السياسيّة والأمنية والاقتصاديّة فيه، مفتوح على كلّ الاحتمالات إلا احتمال الحريّة والديمراطيّة ( والقمع ليس من السلطة السياسيّة فقط كما يتبادر إلى الذهن بل من المثقّفين أنفسهم) . وفي ذلك نحن مطمئنون إلا أنّنا لا نختلف عن كثر سوانا.

ولا يغيبنّ عن البال أنّ القارئ العاديّ لا يستطيع في هذا الجو الثقافيّ الموبوء (ونحصره في الإبداع الكتابيّ بسبب غياب الفنون التعبيريّة الأخرى وضحالة إنتاجها) التمييز بين الغث والسمين، فلا يعرف إن كان غياب فلان عن الصفحات الأدبيّة في الصحف والمجلاّت ناتج عن عدم أهليّته أو بسبب أجكام مسبقة ومشاعر معيّنة يحملها المسؤول عن هذه الصفحات تجاهه، وهل الإشارة إلى كتاب والتسويق له ناتجان عن أهميّة الكتاب أم لأنّ علاقات الودّ تجمع بين الكاتب والناقد، وهل قيمة الرواتب (المزاجيّة) محكومة بالقيمة الفعليّة لما يُكتب أم بعاطفة جيّاشة تغضّ الطرف عن التكرار والأخطاء والسرقة وتتجاهل الثرثرة والغلو والابتذال وتدفع ثمنها غاليًا. وكيف نريد من القارئ أن يعرف مستوى الأعمال الأدبيّة وقيمتها الفعليّة إن كان الكاتب نفسه لا يستطيع ذلك، فهل هو الطفل المعجزة تدلّله حلقة أصدقائه ومحبّيه وتعتبره النهضويّ الثائر والمجدّد العبقريّ، أم هو مجرّد عابر في فضاء الإبداع الشاسع ولن يترك أثرًا يذكر متى حُملت عدّة النقد الفعليّة الموضوعيّة؟

لقد اعتدنا في لبنان، ولغياب العمل المؤسساتي القائم على التخطيط والتواصل والنظرة الموضوعيّة، أن نقول: لكلّ عهد رجاله. ونقصد بذلك أنّ كلّ مسؤول يصل إلى مركز معيّن - ولو بسيطًا – يعمل منذ لحظة تعيينه على محو المراحل التي سبقته بما ومن فيها، ويبدأ من جديد بأفكار ثوريّة (قد تكون هي القديمة نفسها ولكن بشكل آخر) وعناصر بشريّة أخرى، ولذلك فنحن نبدأ من الصفر دائمًا وندور حوله طويلاً ثم نعود إليه غالبًا ونحن لا ندري. وتلك هي المصيبة العظمى
.

الجمعة، 15 يناير 2010

دخول الفايسبوك ليس كالخروج منه


لا أعرف إن كان القرّاء الذين يتابعون هذه المقالات (عبر الصحف الورقيّة) بارعين في استخدام الإنترنت وضليعين في التعامل مع أحدث تقنيات هذه الشبكة وآخر ابتكاراتها، أو إن كانوا من المدمنين على الدردشة والتراسل عبر الرسائل أو الفايس بوك. شخصيًّا لست كذلك، وإن كان لا ينقصني الفضول لدخول متاهاتها وسبر أغوار عالمها السريّ، وغالبًا ما أخضع لرغبات هذا الفضول وأسعى لإشباعه.
ولا تتأخّر المفاجآت التي تقفز أمامي على الشاشة عن إشعاري بأنّني مهما أسرعت في سعيي لحلّ ألغازٍ حيّرتني، فالشبكة أسرع منّي بما لا يقاس في اصطياد دهشتي وإثارة خوفي في الوقت نفسه. فلنأخذ مثلاً قد لا يعرف عنه كثيرون منكم وهو كيف تلغي اشتراكك في سجلّ الفايس بوك. فليس الأمر سريعًا وسهلاً كما ظننت في البداية، فدون خروج أحدنا من هذا العالم السحريّ الخطير محطّات وأسئلة واستجوابات قد تجعله يعود على أعقابه ويلغي فكرة إلغاء اسمه من هذه الشبكة.
فما أن تشير إلى أنّك تريد إلغاء اشتراكك حتّى تظهر أمامك على الشاشة عبارة تسألك إن كنت واثقًا من ذلك، وعندما تصرّ على جوابك، تظهر عبارة تعلمك أنّ أصدقاءك سيشتاقون إليك وإلى معرفة أخبارك وتظهرهم لك جميعهم لعلّك تضعف أمام صورهم وأسمائهم وتغيّر رأيك. وإذا لم تنفع هذه المحاولة يظهر سؤال يطلب منك أن تحدّد السبب الذي يجعلك تقدم على هذه الخطوة، تليه مجموعة عبارات هي بمثابة احتمالات أجوبة لتساعدك على أن تختار من بينها الجواب الذي يلائم وضعك، وكلّما اخترت جوابًا ظهرت أمامك خانة فيها تعليمات تذلّل المشكلة التي ذكرت أنّها السبب، وتطلب منك أن تضغط على عبارة تحوّلك إلى صفحات فيها "مزيد من المعلومات". وإن لم يكن السبب الذي من أجله تلغي اشتراكك مذكورًا، عليك أن تشير إلى ذلك وتشرح السبب في خانة خاصّة.
ولا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، فالشبكة تريد التأكّد من أنّ الشخص الذي دخل إلى الشبكة هو نفسه من يريد الخروج منها، فتبدأ مرحلة جديدة هدفها اختبار صبرك فتظهر أمامك كلمات مكتوبة في شكل غامض وملتبس للنظر والفهم، عليك أن تعيد طبعها في خانة أخرى. وإذا لم يكن النسخ صحيحًا تلغى العمليّة كلّها لتعود من حيث بدأت.
ولكنّ التحليل النفسيّ لاحتمالات الأجوبة التي تبرّر انسحابك هي التي تخيف إن كنّا نعرف أنّ ملايين المراهقين والغارقين في الوحدة هم أكثر الناس استخدامًا لهذه الوسيلة لكي يجمعوا الأصدقاء. فهناك جواب يقول: أجلس طويلاً أمام الإنترنت، ثمّ كما أشرنا سابقًا يظهر الحلّ السحريّ الذي يعلّمك كيف تتحكّم بوقتك. وهناك جواب يقول: لا أعرف كيف أستخدم هذه الشبكة بشكل جيّد. وطبعًا يأتي الجواب التعليميّ الذي يحلّ المشكلة. أمّا إذا كان جوابك يقول: هذا القرار مؤقّت وسأعود عنه قريبًا. فستجري محاولة لتغيير رأيك عبر عبارة تقول لك ما معناه: تجاهل أمر اشتراكك هذا وعد إليه عندما تريد. وإذا أصررت على موقفك، يلغى اشتراكك أخيرًا مع عبارة تطمئنك إلى أنّك تستطيع العودة ساعة تشاء مستخدمًا الرقم السريّ نفسه، مع الرجاء ألاّ تتأخّر كثيرًا في العودة.
بربّكم، هل ثمّة مراهق يجد هذا الصبر (المثير للأعصاب) في الحديث مع أهله؟ وهل ثمّة أهل يقدّمون هذا الوقت لأولادهم كي يقنعوهم بأمر ما. لو كان ذلك موجودًا خارج شبكة الإنترنت لما ترك أحد متعة الجلوس مع أهله وأصدقائه ليجلس مع آلة مبرمجة لخدمته فصار أسيرها وابنها وصديقها وعشيقها والمدمن على حنانها.

الخميس، 14 يناير 2010

البابا واليوتيوب ودروس الماضي


الكنيسة الكاثوليكيّة التي اضطهدت في عصورها السوداء العلماء وأحرقت كتب الحضارات حيثما استطاعت ورفضت الاعتراف بأنّ الأرض تدور حول نفسها وأرغمت غاليلو على التراجع عن آرائه (اعتذرت منه الكنيسة عام 1983) ها هي تدير وجهها مرّة جديدة نحو إنجازات العقل البشريّ لتوصل رسالتها إلى البشر، وتدخل عالم التواصل الحديث وصار في مقدور البابا بنديكتوس السادس عشر أن يطلّ على الناس في مختلف أنحاء العالم عبر موقع "يو تيوب" لأفلام الفيديو. واعتبر موقع الفاتيكان الرسميّ على شبكة الـ"يو تيوب" أنّ ظهور البابا عبر هذه الوسيلة يكتب صفحة جديدة في تاريخ الحبر الأعظم. وكان البابا تحدّث، خلال لقائه الأوّل مع المؤمنين عقب إعلان النبأ، عن أنّه يأمل في أن تكون هذه القناة مصدر إلهام روحيّ لعدد كبير من الأشخاص بمن فيهم أولئك الذين يبحثون عن جواب لتطلّعاتهم الروحيّة من خلال المعرفة ومحبّة المسيح التي تنقلها الكنيسة إلى كافة أنحاء الكون.
خطوة مهمّة قامت بها الكنيسة الكاثوليكيّة في تبنّيها وسائل الإعلام الحديثة والدخول إلى عوالمها الشاسعة ومواكبة تطوّرها الفائق السرعة، غير أنّنا لا نستطيع أن نواكب العصر بلغة لا تستطيع الأجيال الشابّة أن تفهمها، ولو استعملنا وسيلة تخاطب حديثة. فمن هو جمهور "يو تيوب"؟ هم الشبّان والصبايا الذين يتركون دروسهم وأعمالهم ليشاهدوا أفلامًا، في الوقت الذي يحلو لهم فيه ذلك لأنّ شبكة الإنترنت أعطت مستخدميها هذه الصلاحيّة وحرّرتهم من مواقيت ومواعيد التلفزيون أو الراديو أو السينما. إذًا هل ستكون سلسلة الأفلام الوثائقيّة التي أعدّها القيّمون على موقع الفاتيكان على "يو تيوب" جاذبة لهذا الجمهور، وقادرة على إيصال الرسالة الروحيّة إليه، أم ستكون طريقة مصوّرة للوعظ تستخدم لهجة منفّرة وتنأى عن الموضوعات التي تثير فعلاً اهتمام الأجيال الشابّة وتقلقها وتبعدها عن الدين؟ لقد سبق لكنائس ومؤسّسات دينيّة أن استعانت بالإذاعة والتلفزيون والصحافة المكتوبة لنشر رسالتها الروحيّة، غير أنّ طريقة المقاربة بقيت كلاسيكيّة لا بل غارقة في أصوليّة ترفض الحوار وتعتمد الخطابة. ومن يقم بجولة على الفضائيّات التي تبثّ برامج دينيّة يلاحظ كيف أنّ الأفكار المسبقة لا تترك مجالاً لمساءلة أو استفهام أو نقاش. وما نقوله هنا عن الموقع الفاتيكانيّ المسيحيّ الكاثوليكيّ يصحّ على أيّ وسيلة إعلاميّة دينيّة، وخصوصًا تلك التي ترتدي طابع الجديّة القاتمة كأنّ الحديث عن الله لا يتحمّل ابتسامة أو طرفة أو دعابة أو أغنية أو فرحًا أو شكًّا قد يكون الباب إلى اليقين.
إنّ الديانة، كلّ ديانة، ترتكز حكمًا على عقائد وأسس غير أنّها كلّها تحترم في جوهرها العقل الإنسانيّ وإنجازاته لأنّها تؤمن بأنّ الله مبتداها ومنتهاها، فلذلك تبقى العبرة في التعامل مع إنجازات العقل، فالخنجر الذي قد يستخدم للطعن والغدر والقتل هو نفسه قادر على إنقاذ مريض إن وضعناه في يد طبيب على أرض المعركة، ووسائل الإعلام هي المبضع إن أمسك بها جرّاح بارع.

الأربعاء، 13 يناير 2010

في الانتظار


أمضيت اليوم الأوّل وأنا أنتظر اتصالاً منك. لم أدع الهاتف يغيب عن سمعي وبصري. لم أفعل شيئًا. لم ألهِ نفسي بشيء كي أنصرف بكلّيتي إلى الانتظار. غير أنّك لم تتصل.
في اليوم الثاني، وبعدما مضى قسم من النهار وأنا أنتظر، تعبت. فقلت في نفسي: فلأمارس بعض الرياضة لعلّها تخفّف من هذا التوتّر الذي يشنّج جسمي. وضعت الهاتف بالقرب منّي ومارست الرياضة حتّى تعبت من الانتظار والرياضة. أدخلت الهاتف إلى الحمّام، استحممت، ثمّ نمت وأنت لم تتصل.
في اليوم الثالث، انتظرت وانتظرت، ولم تتصل. مارست الرياضة، قرأت كتابًا، استحممت، وأكلت، ثمّ نمت ولم يأت الاتصال الهاتفيّ المنتظر.
في اليوم الرابع، أضفت إلى ما فعلته في الأيّام السابقة، عملاً إضافيًّا إذ زرت جارتنا وشربت معها القهوة، وبالطبع حملت هاتفي المتنقّل ووضعته على الطاولة أمامي قائلة لها: إنّي انتظر اتصالاً مهمًّا. غير أنّ الاتصال لم يتمّ.
في اليوم الخامس، أصابني بعد الرياضة والغداء نعاس شديد، وضعت الهاتف قرب سريري ورفعت صوت رنينه كي أصحو عندما تقرّر الاتصال بي. نمت لأكثر من ساعتين وصحوت خائفة أن يكون الهاتف قد رنّ ولم أسمعه. غير أنّ الشاشة لم تسجّل شيئًا.
في اليوم السادس، استيقظت وأنا أفكّر في ترتيب أغراضي التي أهملتها لأيّام، ثمّ مارست الرياضة، وحضّرت قالبًا من الحلوى، وكنت بين وقت وآخر أنظر إلى الهاتف لأتأكّد من أنّك لم تتصل. ثمّ مارست الرياضة، وقمت بزيارة لجارة أخرى. وعندما نمت في ساعة متأخّرة كان الانتظار قد باء أيضًا بالخيبة.
في اليوم السابع ارتحت من الانتظار. أطفأت جهاز التلفون، وقرّرت أنّ في الحياة ما هو أهمّ من انتظار اتصال هاتفيّ منك لن يدوم سوى دقائق. خرجت من المنزل بلا هاتف، فشعرت بالتوتّر في بداية الأمر، ثم انطلقت غير آسفة على شيء. وقلت في نفسي ما دمت بقيت على قيد الحياة لسبعة أيّام من دون أن أسمع صوتك، فسيمكنني أن أحيا طوال العمر من دونك.

الثلاثاء، 12 يناير 2010

الوعاء الكبير والوعاء الصغير


1 - قالت الأمّ لابنتها وهي تدعوها لكي تصبر على أخوتها الصغار: الوعاء الكبير يتّسع للصغير.فأجابت الفتاة: الوعاء الكبير، فارغًا فقط، يتّسع للوعاء الصغير.
*****
2 - لا تتّسع بعض العلاقات لأكثر من شخص واحد، استطاع أن يحوّل العلاقة علاّقة ثياب يعلّق عليها الشخصَ الآخرَ كمعطف سميك في أقصى الخزانة، ولا يحتاج إليه إلاّ في أيّام قليلة.
*****
3 - أطلق الفقير النار على معدته لعلّه يصطاد عصفورًا من عصافير بطنه الجائعة فيقدّمه عشاء لصغاره.
*****
4 - ليس العلم في الصغر هو ما يشبه النقش في الحجر بل طريقة التعليم المهينة. فالدرس الذي نذكره أكثر من سواه هو ذاك الذي أنزل الدموع من عينينا وأخفاها في أبعد نقطة في قلبنا.
*****
5 - سئلت الأمّ عن أحبّ أولادها إلى قلبها فأجابت: الصغير حتّى يكبر، والمريض حتّى يشفى، والمسافر حتّى يعود. هل كانت تلك الأمّ تقرأ في عمق قلبها أنّ إخوة الصغير الكبار سيرمونه في بئر حسدهم، وإخوة المريض الأصحّاء سيحسدونه على آلامه، وإخوة المسافر المقيمين في دفء البيت العائليّ سيغارون منه يوم عودته؟
*****
6 - يمضي الواحد منا عمره وهو يحاول أن يستعيد الطفل البريء الذي في داخله فإذا به يستعيد عِقد الطفولة وحرمان الطفولة فتموت فيه البراءة مرّة بعد مرّة بعد مرّة.
*****
7 - قصص الأطفال وُضعت منذ البدء للفقراء. أولاد الأغنياء لهم الفلسفة والعلوم والفروسيّة والموسيقى وآداب المائدة ودروس حسن التصرّف والمسرحيّات الهزليّة. الحكايات التي تروى للأطفال كلمات تعد فقراء الأرض بالجنيّات الصالحات والأمراء المنقذين فينام صغارهم برؤوس ممتلئة أحلامًا وبطون خاوية... وينام الأغنياء مطمئنّين إلى أنّ صغارهم لن يُواجهوا بثورة الجياع.
*****
8 - آثار الزمن على حقائب اليد الجلديّة الأنيقة، على أثاث المنزل الممتلئ حركة وبركة، على وجه عانق الشمس واغتسل بالمطر، على ظهر انحنى من العمل والعطاء، على كتاب انتقل من يد إلى يد، ومن جيل إلى جيل، على كنزة صوفيّة حاكتها الجدّة، على غطاء طاولة مبقّع من حفلة عرس، على شعر أبيض يكلّل وجهًا تسكنه السكينة، على كرسيّ عتيق مركون خلف الباب بعدما كان في شبابه يزيّن صدر الدار، آثار الزمن هذه! لا تمحوها ولا تجدّدوها ولا تعالجوها ولا تخجلوا بها، آثار الزمن هذه تعني أنّ الحياة مرّت من هنا.

*****
9 - يحتفل الناس برأس السنة الصينيّة أو الميلاديّة أو الهجريّة، أمّا أنا فصرت أحبّ الاحتفال برأس المال على طبق من فضّة وبملعقة من ذهب، غير أنّني على ما يبدو تأخّرت على تحقيق ذلك.
*****
10 - أنت لست وحدك أبدًا: هناك يداك ورجلاك وأمعاؤك وقلبك وعيناك وأذناك... ورأسك، خصوصا رأسك، فما دام بين كتفيك فلن تكون وحدك أبدًا.
****
11 - ما هو عذر الأثرياء الذين لا يحوطون أنفسهم بالجمال والنظافة؟ إنّهم حديثو نعمة يخشون أن يعود إليهم الفقر.
*****
12 - الفقر الاختياريّ الذي يبشّر به بعض الناس هو نزهة ترفيهيّة يقوم بها بعض المترفين ليتسلّوا.
*****
13- أنا يا صديقي اخترتك لتكون بيتي، كما تختار العصافير الطليقة الأشجار والسقوف التي ترتاح إليها فتبني فيها أعشاشها، ولن تكون مفروضًا عليّ كبيت السلحفاة.
*****
صحيفة "النهار" - الثلاثاء 12 كانون الثاني 2010

الاثنين، 11 يناير 2010

أين أضع كلّ هذه الكتب؟


لا أذكر أنّي تخلّصت من كتاب.
ولكن دائمًا هناك مرّة أولى.
والمرّة الأولى كانت صعبة، غير أنّ الأمر لم يعد يحتمل التأجيل. فالمنزل (لا بل منازل إخوتي وأخواتي)لم يعد يتّسع لمزيد من الكتب، وصار من الواجب أن أعيد ترتيب مكتبتي الخاصّة مبقية فيها على ما يجب الاحتفاظ به، متخلّصة ممّا لن أعود إليه مهما كلّفني الأمر.
وهكذا اكتشفت أنّ التخلّص من الكتب ليس أمرًا سهلاً، مهما تدنّت قيمة بعضها أو عتق طرازها أو بهتت موضوعاتها. وكان لا بدّ من توزيع الكتب على فئات أربع: واحدة تضمّ الكتب القيّمة التي لا غنى عنها في كلّ مكتبة وتعتبر مراجع حيّة لا يمكن التعاطي بالشأن الأدبي من دونها كالدراسات والمعاجم وكتب الدين والفلسفة والتاريخ والعلوم. وفئة تضمّ الكتب التي من الممتع العودة إليها بين الحين والآخر لأنّني أجدها جديدة كلّ مرّة أعيد قراءتها، كأنّني لم أقرأها قبل الآن، أو كأنّني لم أنتبه إلى بعض ما ورد فيها قبل هذه القراءة كالشعر والرواية.
الفئة الثالثة تحتوي على الكتب التي لها قيمة أدبيّة عند سواي، غير أنّني لن أعود إليها بالتأكيد لأنني لم أستفد منها ولم أستمتع بها عندما قرأتها في المرّة الأولى، إلا أنّها نالت شهرة ما، وأجريت حولها بعض الدراسات، وقد تجد من يعجب بها إن وهبتها إلى مكتبة عامّة أو قدّمتها إلى من يهوى قراءة أي شيء. ومن المؤسف أنّ هذه الفئة المخادعة لم تقدّم لي فكرة أو معلومة أو صورة أستطيع أن أستعيدها بعد إغلاق دفتّي كتاب منها، بل حلّ فراغ هائل وشعور بالإحباط وخيبة الأمل.
أمّا الفئة الرابعة ففيها الكتب التي يخجلني وجودها على رفوف المكتبات، وأشعر بالأسى في نفسي كلّما نظرت إليها وتذكّرت الأشجار المسكينة التي قطعت لتصير ورقًا تكتب عليه مثل هذه الكلمات، كما أشعر بالندم على المال الذي دفعته ثمنًا لها وعلى الوقت الذي أهدرته قبل أن أكتشف أنّها لا تصلح إلا للرمي في سلال المهملات. وتضمّ هذه الفئة بعض الروايات المملّة التي تجترّ الكلام بلا هدف وبعض الدواوين المنظومة بلا شعر أو إحساس وبعض الدراسات السخيفة وبعض الكتب التي اضطررت إلى شرائها تلبية لدعوة محرجة إلى حفلة توقيع تجاريّة، ولم أفعل كسواي من الذين يرمونها عند الخروج من الصالة التي جرى فيها التوقيع، بل قرأتها ولم أستطع رميها على عادتي في احترام الكتب وتقديرها.
وللمرّة الأولى في حياتي، أخذت كيسًا كبيرًا ورميت فيه كل كتب الفئة الرابعة لأحوّلها إلى معامل تدوير الورق، تاركة بذلك المجال لكتب الفئات الأخرى كي تتنفّس في انتظار كتب جديدة قيّمة تضاف إلى جانبها. وأخذت في المقابل عهدًا على نفسي برمي أي كتاب لا يصلح للاحتفاظ به، مباشرة بعد قراءته والحكم على مستواه، من دون التأثّر بالمقالات التي تكتب عنه في الصحف والمجلاّت والتي تتحكّم في بعضها العلاقات الشخصيّة والخدمات المتبادلة.
حاولت وأنا أعيد تنظيم مكتبتي أن أضع رقمًا معيّنًا لعدد الكتب التي يجب أن أحتفظ بها ولا أتخطّاه مهما كان الثمن، إلاّ أنّني فشلت. فكلّما وضعت رقمًا، وجدت أنّي سأظلم نفسي إذا تخلّيت عن الكتب التي شملها قرار الإبعاد. وفضّلت تأجيل التنفيذ إلى مناسبة أخرى، فالخطوة التي أقدمت عليها هذه المرّة كانت جريئة بالنسبة إليّ، وشجاعة نظرًا إلى شغفي بالكتب. ويجب ألا أجبر نفسي على خطوة أكثر صعوبة قبل أن تعتاد عيناي النظر إلى رفوف فقدت ازدحام الكتب طولاً وعرضًا على رفوفها التي لو لها ألسنة لصرخت من ثقل الحمل.

الأحد، 10 يناير 2010

في المسلخ البشريّ


أعتذر ولكنّي عاجزة الآن عن النسيان والغفران.
أن أنسى وأغفر وأصفح وأسامح وأتعالى فوق الإساءة، أفعال لا أعرف إن كنت قادرة على تصريفها.
أن أتخطّى ذكريات الماضي وأن أعبر فوق حفر الأيام وأن أقبل الأحداث التي حدثت، أفعال لا أدري إن كنت أستطيع أن أكون ضميرها المستتر أو المتّصل أو الظاهر.
أن أمشي إلى جانب الأشياء وأدّعي أنني لم أرها، أن أسمع الكلمات وأقول أنّها لم تقل، أن أرى ما يجري وأقنع نفسي بأن شيئاً لم يحصل، أفعال لا أملك القدرة على أن أكون فاعلتها.
أعتذر ولكنّي عاجزة الآن عن الصفح والمسامحة.
الأعوام التي مرّت لا تزال تثقل ذاكرتي بحوادثها، والناس الذين عرفتهم لا يزالون موجودين بعنف في دفتر يوميّاتي الذي انتهك مراراً. أعرف أنّ الصفح ممتع وكم أرغب في اختبار متعته، ولكنّي اليوم أجد متعتي في الغضب المدمّر المؤذي. وأعرف أنّ التعالي فوق الجراح مريح للروح ولكنّي اليوم أرغب في التمرّغ في دم الجراح النتنة. وأعرف أنّ استقبال الآخرين العائدين من غياب العمر والذاكرة، بفرح الإبن الأكبر الذي نسي ما فعله أخوه الشاطر، عمل فيه من البطولة والقداسة الشيء الكثير، ولكنّي اليوم أرى نفسي تاركة البيت الأبويّ للإبن الضال العائد إلى أحضان الأب المستعدّ مرة ثانية وثالثة ليسمح لغنج الإبن الأصغر بأن يلقي بدلاله على أجواء المنزل...
كيف يستطيع الإنسان أن يقبل الغدر والكذب من الذين يحبّهم، والغباء والادّعاء من الذين يعمل معهم، والأنانيّة والأثرة من الذين يعيش معهم؟ هذا القبول هو القداسة التي يجب أن ترفع فوق المذابح وتكرّم في أماكن العبادة، لا أعاجيب الشفاء ولا بقاء الجسد متماسكاً واضح المعالم ولا التضحية بالمال والنفس في سبيل المعتقد والآخرين. أن نقبل هؤلاء الذين نلتقي بهم يومياً منذ أن نفتح أعيننا على وجوه أهل البيت الذين لم نسأل عن رغبتنا في أن نكون منهم ولهم، إلى آخر ساهر مزعج يجلس إلى المائدة المجاورة في المطعم الأنيق، هذا هو الفعل الذي أجد صعوبة في القيام به، والقبول الذي أعنيه هو الرضا الحقيقي والعميق، لا المسايرة المهذّبة، ولا التنازل الجبان، ولا اللياقة الاجتماعيّة الوظيفيّة، ولا الحفاظ على تماسك إنسانيّ هشّ.
أعتذر ولكنّي أجد هذا القبول صعباً وخانقاً، وبالكاد أستطيع أن أحتمل التفكير فيه فكيف أعمل إذاً على تنفيذه؟ كيف أسامح وأنا لا أستطيع أن أصدّق أن هؤلاء لا يعرفون فعلا ماذا يفعلون؟
اليوم أنا عاجزة عن هذا الفعل ولكنّي أعرف أنّي لن أرتاح قبل أن أجد الوسيلة التي تقودني إليه، وأرجو ألا يكون الوقت هو العامل المنقذ لإنّ ذلك يعني الرهان على النسيان وأنا لا أريد أن أنسى.

السبت، 9 يناير 2010

حسد



نحسدك على موتك أيّها الرجل الميت!
نحسدك على السكينة التي تقيم فيها، وعلى الدموع التي ذرفت حزنًا عليك، وعلى الاحتفال الذي أقيم لك، وعلى الصلوات التي رفعت من أجلك، وعلى الكلمات الجميلة التي قالها الكاهن عنك، وعلى الندم الذي أصاب جميع من أهملك في حياتك. وما كنت لتسمع شيئًا من ذلك أو تراه أو تعرف عنه لو كنت على قيد الحياة.
نحسدك على الذكريات التي استيقظت فجأة يوم موتك وكنت فيها كلّها ذكيًّا وسعيدًا وكريمًا ومحبًّا. وعلى تكاليف الدفن والأزهار ولو طلبت قيمتها وأنت حيّ لما كنت أعطيتها، ولأنّ أمّك مستعدّة للقبول بأي امرأة شرط أن تعود الحياة إليك، ولأنّ والدك يقول في نفسه: لن أعارضه بعد الآن في شيء إن عاد إليّ، ولأنّ أخاك يفكّر في أنّه لن يقاسمك إرث العائلة إن عدت إلى العائلة، ولأنّ زوجتك ندمت على كلّ ليلة حبّ أجّلتها بسبب التعب، ولأنّ أولادك عادوا من المهجر ليدفنوك.
نحسدك لأنّ موتك جعل الجميع يتركون كلّ شيء ويأتون لوداعك تحت المطر وفي عزّ الصيف، ولو كنت حيّاً لما سأل عنك أحد.
نحسدك أيّها الميت لأنّنا في لبنان، وبعد كلّ نشرة أخبار، نحسد المائتين الراحلين، والمسافرين المهاجرين، والمصابين بالخرف.

الجمعة، 8 يناير 2010

جارتنا الفنّانة


جارتنا شابّة تهوى الغناء. ولكنّها لم تكن مستعدّة للتضحية بكلّ شيء في سبيله، لأنّ سلّم أولياتها يختلف عن سائر العاملين في هذا المجال. ولذلك تزوّجت باكرًا من شاب ثريّ، وأنجبت البنين والبنات. غير أنّها خلال ذلك كلّه لم تهمل الفنّ الذي يجري في عروقها، فدرست الموسيقى في نادي البلدة وتعلّمت العزف على يد مدرّس مطرود من معهد الموسيقى وأتقنت الرقص في الملاهي الليليّة. ثمّ وضعت كلّ ذلك في خدمة المعبد والبلديّة، قائلة لأولي الأمر فيهما: اعطوني مسرحًا وميكروفونًا وخذوا ما يدهش العالم..وبقيت تصرخ: اعطوني...اعطوني... حتى أعطوها.
وبدأت جارتنا الجذّابة ذات البعل والأولاد بالأناشيد مسبّحة الله شاكرة إيّاه على النعم التي مُنحتها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، ومشنّفة أذني رجل الدين الشاب بحنان صوتها الذي حلّق به وأوصله إلى السماء السابعة، وبالغناء على درج البلديّة مثيرة في رئيسها العجوز وأعضائها (أعضاء البلديّة لا أعضاء الفنّانة الشابة) أحاسيس منسيّة منذ زمن.
غير أنّ ما لم يعرفه أحد أنّ أطفال هذه المغنيّة الصاعدة ينامون كلّ ليلة على صوت خادمتهم وهي ترندح لهم تهويدات الأطفال بلغة بلادها فيغفون على صوتها الحنون، ولكنّهم يستيقظون، وكذلك الجيران، على صوت أمّهم الأوبرالي وهي تتدرّب على أغنيات ستطلقها قريبًا في الأسواق.

الاثنين، 4 يناير 2010

هذه أنا!




أعترف بعجزي عن الاحتفاظ بك بالطرق التي تنجح فيها الأخريات.
فأنا عاجزة عن منافسة النساء اللاتي يحسنّ إعداد الأطباق الشهيّة وقوالب الحلوى المثيرة وتحضير الموائد الأنيقة. ولذلك لن أستطيع الوصول إلى قلبك عبر معدتك.
وأنا عاجزة عن منافسة النساء اللواتي يحطن بك في النوادي الرياضيّة ذات المستوى الرفيع وفي المسابح التي لا يقصدها إلاّ الأثرياء، إذ ليس لي مقوّمات النجاح التي يملكنها. فلا جسدي جسد عارضة أزياء جائعة على الدوام إلى الطعام والرجال، وليس عندي مجموعة من المايوهات الحديثة الطراز، أبدّل كلّ يوم اثنين منها على الأقلّ مع ما يلائم ألوانها من إكسسوارات كالمنشفة والحذاء والنظّارات الشمسيّة وحقيبة البحر وعلب مساحيق الاسمرار، ولا أستطيع أن أتمدّد ساعات وساعات تحت شمس حارقة وأتقلّب كالفروج في آلة الشيّ. ولذلك فلن أستطيع أن "أملأ" عينيك حتى لا تبهرهما الأجساد الأخرى.
وأنا عاجزة عن مرافقتك إلى الملاهي الليليّة للرقص، فبعد نهار العمل الطويل لا يبقى عندي قدرة جسديّة تسمح لي بالانتقال من حلبة رقص إلى أخرى ومن ليل إلى ليل ومن جوّ شرقيّ إلى جوّ غربيّ، ومن بيروت إلى البترون إلى الجبل حيث أحدث المطاعم والنوادي.
وأنا عاجزة عن الصمت إذا كنت مخطئًا، وعن اللامبالاة إذا كان الأمر مثيرًا للاهتمام، وعن التغاضي عن آرائك في الناس والحياة إذا كانت لا تتوافق مع آرائي.
غير أنّي لا أنام قبل أن تعود إلى البيت سالمًا،
وأصلّي وأرفع النذور وأضيء الشموع إن أصابك ألم ولو بسيطًا،
وأختفي وراء الكواليس لتظهر على مسرح الحياة في أبهى حللك،
وأسهر لأراقب انتظام أنفاسك وأنت نائم فأطمئنّ،
وأحضّر لك الأسئلة التي تطرد الرتابة، والقصص التي تثير المخيّلة،
وأدخل معك في نقاشات لا تنتهي،
وأصمت حين أشعر بأنّ الكلام قد يزعجك.
يا إلهي! كم أبدو من زمن آخر لا علاقة له بالزمن الذي تعيش فيه بكلّ مسامك.

الأحد، 3 يناير 2010

يوميّات امرأة في عالم الأدب

خالف تُعرف
اتصل أحد المسؤولين عن الصفحة الثقافيّة بكاتبة في صحيفة أخرى وأعلن لها عن رغبته الشديدة في لقائها للحديث عن الشعر والأدب والفنّ. تردّدت الكاتبة الشابّة وتذرّعت بمجموعة من الأسباب التي تحول دون لقائهما في الوقت الحاضر، ولم تجد في نفسها الجرأة لكي ترفض نهائيًّا بسبب مرتبته الثقافيّة وعمره المتقدّم في دنيا الأدب، في حين أنّها دخلت إلى هذا المجال منذ بعض الوقت.
تلاحقت اتصالاته الهاتفيّة الملحّة حتى ضاقت ذرعًا بالأمر، وقرّرت أن تقابله لعلّه يصرف النظر بعد ذلك عن الاتصال بها.
وبالفعل التقيا في مقهى بيروتيّ حديث ولم تنل إعجابه كما توقّعت، وتوقّفت الاتصالات الهاتفيّة نهائيًّا.
هذه الحادثة ليست فريدة من نوعها. غير أنّها تعبّر عن نظرة الرجال المثقّفين إلى المرأة التي تكتب. فهي في نظرهم واحدة من ثلاثة: إمّا دخيلة لا علاقة لها فعليّة لها بالأدب، أو تملك الموهبة إنّما تحتاج إلى رجل كي يصقلها، أو عندها بعض الإبداع الذي لا شكّ يقف رجل وراءه.
وفي الحالات الثلاث المرأة الكاتبة تحتاج إلى شهادة من رجل كاتب وإلا فهي مشروع عاهرة ينظر الجميع إلى نجاحها على أنّه نتيجة مهارتها في السرير لا على الورق.
تقول إحدى الكاتبات الشابّات: في كلّ مرّة يتّصل بي شاعر أو روائيّ أتوقّع أن أسمع رأيه في كتاباتي. وبالفعل فهو يهنّئني قائلاً إنّي لست كسواي عالة على الأدب، غير أنّه لا يستطيع إلا أن يقدّم بعض النصائح التي لا بدّ أن أعمل بها إن أردت النجاح في هذا المجال.
وتقول إحدى الشاعرات: لم أكن بارعة في الحديث مع الناس، ولم أملك يومًا الجرأة التي يتميّز بها شعري. ولذلك شكّ أكثر من كاتب التقى بي بأني صاحبة تلك القصائد لا بل أصيب البعض منهم بخيبة أمل كبيرة حين لاحظوا أنّي لا أشبه المرأة الجريئة التي تمنّوا اللقاء بها حين قرأوا شعرها.
وتقول كاتبة أخرى: حين دخلت إلى عالم الكتابة والنشر فوجئت بتصرّف بعض الكاتبات اللواتي يتصرّفن في العلن بقحة أقرب إلى الفجور. ويتحدّثن بشكل مثير ويرتدين ملابس أقلّ ما يقال فيها أنّها جريئة وغريبة. غير أنّي عرفت بعد فترة قصيرة من احتكاكي بعالم الكتّاب والشعراء أنّ هؤلاء الكاتبات يستعملن أجسادهن كي يستطعن نشر قصائدهن ورواياتهنّ أو إيجاد أمكنة لهنّ في الصفحات الثقافيّة.
أذكر أنّي قرأت مقالة للأديبة السوريّة كوليت خوري تتحدّث فيها عن الشكّ الدائم بنجاح المرأة في بلادنا فينشر الناس عنها إشاعات تسيء إلى سمعتها كي يشوّهوا شهرتها وتفوّقها. في حين يعمل الناس في الخارج على التعتيم على سيّئات ناجح أصبح رمزًا كي لا يعرّضوا المؤمنين به والذين اتخذوه مثالاً أعلى للشكّ في الصورة التي تكوّنت في أذهان الجميع عنه. فيبقى الرمز رمزًا والمثال الأعلى مثالاً أعلى.
ومع أنّي قرأت هذه المقالة في إحدى المجلاّت منذ زمن بعيد إلاّ أن الواقع اليوم لا يختلف كثيرًا. ومع الأسف تساهم مجموعة لا بأس بها من الشاعرات والكاتبات في تأكيد الإشاعات وتثبيت الرأي القائل أنّ علامة استفهام كبيرة ترتسم فوق نجاح أي شاعرة أو روائيّة.
وكما في كلّ مرّة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثمّة كتّابًا وشعراء يعطون كلّ ذي شأن قيمته الحقيقيّة، ولا يعتبرون أنّهم أوصياء على الشعر والأدب ويحقّ لهم أن يقدّموا شهادات حسن سلوك وتفوّق لهذه أو لتلك، أو أنّهم أكثر معرفة وقدرة من الكاتبات والشاعرات اللواتي يتّصلون بهنّ مهنّئين بل يفعلون ذلك بصدق وشفافيّة واحترام. وكذلك ثمّة كاتبات يفرضن حضورهنّ بأقلامهنّ فلا ينزلقن إلى الإباحيّة ليعترف العالم بجرأتهن، ولا يدّعين "الجنون" كي يقال "إنّ الجنون فنون"، ولا يسرن عكس التيّار كي يلفتن الانتباه والرؤوس، ولا يتصرّفن كـ"الرجال" ليؤكّدن على حقهنّ في المساواة والحريّة.
وبمثل هؤلاء الرجال والنساء الصادقين مع أنفسهم ينجو الأدب.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.